التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أرض النهاية

 في مكان ما وفي زمن ما وجدت كاتبة غامضة تَدعي روايتها لقصص مبنية على وقائع حدثت بالفعل على كواكب اخرى غير الارض والكاتبة حسب الظاهر من الأحداث على صلة بشخص تصفه بالعالم البنفسجي وبطريقه مجهولة ولسبب غامض كان يطلعها على تفاصيل المأساة الأخيرة للكواكب التي شارك بقصد او من دون قصد منه في تجارب ادت لتدميرها
ثم يظهر من الاحداث ان جهة يصعب تحديد معالمها كانت حاضرة لتوجيه تلك التجارب , وان العالم البنفسجي لم ينتبه لخطرها الا متأخرا جدا مع الدمار الذي حل بالكوكب الاصفر , وبنهاية قصة الكوكب الاصفر يتضح ان الكاتبة من بعد تدوينها للقصة الثانية مرت باحداث غيرت حياتها وانتهت بها في رحلة مجهولة للكوكب الازرق مما دفعها في الاخير لسبب ما لإعادة تدوين بعض اجزاء القصة الثانية ثم قرارها بالامتناع عن تدوين القصص الاخرى المتعلقة ببقية الكواكب السبعة لحتى اللحظة الاخيرة من حياتها ....

وبموت الكاتبة تنتقل رواية الاحداث لحفيدها الذي كانت تهوى توبيخه بسبب او من دون سبب لاحساسها الغامض بأنه ذات يوم قد ينتهي بنفس معاناتها , على ان حياته كانت ومن لحظتها الاولى تتجه للمسار الاشد المًا , فمن طفل مشرد لملجأ ايتام متهالك لأم بالتبني غريبة أطوار سرعان ما تخلت عنه بدورها لأمها بالتبني ليمضي الطفل ما تبقى من طفولته برفقة جدة مستهترة تعيش بعزلة لا تربطه بها او بأمه بالتبني اي صلة قرابة حقيقية , غير ان الجدة لو نستثني عاطفتها منحته كل ما يحتاجه طفل لتستمر حياته بشكل طبيعي لولا ان الطفل بدوره كان يتمتع بغرابة أطوار غير عادية , ففي المدرسة كان عاجزا عن الاندماج يكره لو يمضي الوقت خارج البيت في نزهة او زيارة لاصداقائه شبه فاشل بدراسته بلا اي هواية تقريبا لو نتغاضى عن هوسه العجيب بمسدسات الماء ....

 

بعد نصف قرن جد عجوز سيعترف لحفيدته اثناء تعليمها كيفية التعامل مع زملائها عن زميل دراسة في المتوسطة غريب الاطوار انتقل لمدرستهم وبشكل سريع وبفارق كبير تفوق على الجميع للدرجة التي اشعرتهم بنوع من النقص تسبب للفتى بمضايقات عديدة انتهت به للانطواء واهمال دراسته , ورغم ان الجد للان يخجل كلما قارن بين نفسه وزميله غريب الاطوار للحد الذي يشعر معه انه وحتى في نهاية عمره لو عاد بالزمن سيعجز عن منافسته وان شعوره هذا لن يفهمه غير شخص مثله عايش الفتى عن قرب

لكن ما لم يعرفه الجد ان الفتى لم يتأثر كثيرا بتلك المضايقات فبنفس السرعة التي اشتعل بها شغفه بعالمه الجديد بعد تبنيه وفي لحظة عجيبة انقلبت مشاعره بلا سبب ليفقد اهتمامه بكل ما حوله ويعتبر الدراسة والمدرسة بكل ما فيها مضيعة للوقت , ورغم سؤال جدته بين فترة واخرى عن وقت ماذا الذي يضيع لو درس كان يشرد بلا اجابة واضحه ترضيه او تقنعها على انها في الاخير وحين صارحها في سنته الاخيرة في الثانوية بترك الدراسة اجابته بلا اهتمام بان يفعل ما يريد ففي كلا الاحوال وكغيره من الناس سيندم مهما كان اختياره , ومع خيبة امله بعدم اهتمامها بمستقبله اشعرته اجابتها بشيء من الراحة ... بعد سنوات وعندما سيسترجع تلك الفترة من حياته سينتبه انه وخلال السنوات التي فقد فيها اهتمامه بكل ما حوله كانت جدته هي الوحيدة التي تثير اهتمامه

صحيح انها تعيش بعزلة وبلا صداقات او اقارب , وصحيح انها مجرد كاتبة بدون شهرة في مجلة متواضعة , وصحيح ان عاداتها غريبة وتمضي اغلب يومها في في المكتبة العلوية الملحقة بالبيت , وصحيح انها قليلة الكلام وعلى عكس قليلي الكلام عصبية وتفتقر للصبر , وصحيح ان واحدة من هواياتها الاساسية كانت توبيخه بسبب او من دون سبب , وصحيح انها لم تبدي قط اي اهتمام به او بمشكلاته , لكنها بنظره كانت الشخص الاكثر اثارة لفضوله من بين كل من التقاهم في حياته والانطباع الغريب الذي تتركه في نفسه بأنها تعرف ورأت اكثر من غيرها

مرات قليلة اتيحت له الفرصة لمشاركتها جلستها في المكتبة وفي كل مرة كانت تنتهي جلستهم وعقله ممتلئ بأفكار ستشكل فيما بعد طريقته في الحياة , منها تعلم ان اصح الامور ابسطها واكذب الاراء اعقدها وتعمد التفرد نقص والتاريخ يتغير بالافكار الصريحة والملتوية تؤدي لصراعات عبثية وعمر الانسان اصغر من الفترة التي يحتاجها ليتعلم كيف يفهم العالم ويغيره للافضل , وبالمجمل لو نختصر افكارها التي تلقاها منها فهي ببساطة كانت تنهاه عن القراءة تعوده فهم الحياة على بأبسط صورها تنصحه بممارسة الشيء لا القراءة عنه , فيما بعد سيلتقي بالشخص الذي افنت حياتها بحثا عنه وسيتعلم اكثر عن الطريقة التي كانت تنظر بها للعالم

في الثانية والعشرون من عمره توفيت جدته كعادتها كانت كلماتها الاخيرة بسيطة وموجزة اخبرته انها تركت له من المال ما يكفيه ليستكمل دراسته ويستعيد حياته العادية او ... على الاغلب ترددت فاكتفت بالصمت ..
ايام من بعد موتها وشعوره بالضياع يتزايد , كان يتصور دائما الوقت الذي ستوجهه للشيء الذي سيملئ فراغ قلبه , كيف سيكمل حياته ؟ كانت اغلب خواطره تنصرف لجدته من طفولته وهو يتعجب من الزيارات الغريبة التي تتلقاها بين وفترة واخرى من شخصيات شهيرة ومهمة رغم انه ومهما بحث لا يجد اي شيء يدل على انها شخصية معروفة او مميزة , حتى اسمها حين يبحث عنه يظهر في الصفحة الثانية او الثالثة ضمن صفحة مقالاتها في موقع المجلة , امضى بعض الوقت يتصفح مقالاتها ومجددا لا شيء يثير اهتمامه كلها مقالات عجيبة عن الديناصورات او عن مخلوقات وهمية يعتقد انها انقرضت او عن حكايات شعبية لمخلوقات عملاقة , صحيح ان مزاجها غريب لتكرس حياتها للمخلوقات المنقرضة لكن الاغرب انها مقالات عادية جدا وتنشر في مجلة بسيطة مخصصة للمرأة والطفل

فكر لو يجمع مقالاتها كنوع من الاحتياط لو حذفت المجلة صفحتها ... بعد ساعات انتهى بجمع كل ما كتبته في حياتها لينتبه ان عمله البسيط اعطاه بشكل او باخر صورة ولو ضبابية عن حياة جدته , في العشرين من عمرها بدأت الكتابة لتكتب بمعدل مقالة اسبوعيا واغلبها كانت تتناول حكايات العمالقة في قصص الشعوب البدائية , استمرت تلك الفترة من حياتها ثلاث سنوات ثم انقطعت عن الكتابة لعامين عادت بعدها لتنشر مقالا بعنوان الكوكب البنفسجي يحكي قصة كوكب تم تدميره بتجربة غامضة ثم بعد عام اخر مقال مشابه عن كوكب اصفر مر بنفس الظروف , وفي القصتين ادعت على سبيل المزاح انها قصص حقيقة مرسلة لها عن طريق عالم شارك بتلك التجارب , ورغم انها وعدت بمزيد من قصص الكواكب ولمحت بأنها سبعة اعتذرت بشكل مفاجئ ثم انقطعت عن الكتابة لعقد كامل عادت بعدها لتكتب بانتظام بمعدل اربع مقالات سنويا عن الديناصورات لحتى وفاتها

ما اثار انتباهه ودهشته هنا انقطاعها من بعد قصة الكوكب الاصفر عن الكتابة لعقد كامل , ثم كان اول ما فعلته بعد انقطاع عشر سنوات ان اعادت نشر القصة مع تعديل ثلثها الاخير , اعاد قراءتها مرة بعد اخرى وفي كل مرة كان يتملكه احساس ان جدته كانت كمن يحاول نقل حقيقة مجهولة بكل غرابتها ثم هي لا تبالي ان صدقها احد , او كمن ينقل رسالة غامضة وهو على يقين ان احدهم يتلقاها ويفهم ما تعنيه ... لاحقا سيجمعه لقاء بالمرأة التي رافقت جدته في اصعب لحظات حياتها وسيروي لها بتفاصيل اكثر عن ذكرياته مع جدته وعن الاشهر الطويلة التي استغرقها بحثه ليكمل طريقها ويبدأ من حيث انتهت


هو الان في رحلة لو نعتبرها سياحية لشمال الكاريبي , للدقة هو يتنقل بين دوائر العرض الرئيسية لاسباب معقدة وكان قد كون الى حد ما تصورا غريبا للتجربة التي مرت بها جدته على يقين انه الان يفهم الشيء الذي لم تفهمه وقتما غيرت في احداث القصة الثانية , وانه اكتشف السر الذي حيرها خلف مشاركة العالم البنفسجي في احداث متتابعة استمرت لقرون , كان مفهومة لانكسار الزمن قد انتهى به لتصور يصعب تصديقه حتى على جدته

قادته قدماه لحديقة الديناصورات راوده شعور كئيب وهو يتأمل مجسماتها تحت ضوء القمر , مفارقة عجيبة ليجد نفسه محاطا بمخلوقات منقرضة بينما تسيطر على عقله فكرة وجود كائنات غامضة تحاول دفع البشرية للفناء , جلس على احد المقاعد ومن حقيبته اخرج ما يشبه طابعة صغيرة , وكان قراره ان الوقت قد حان لاعادة استقبال الرسالة التي استقبلتها جدته قبل اكثر من ربع قرن , ولو صح تصوره فالاختلاف بين ماكتبته ولم تنشره عن الكوكب الاحمر وما سيتلقاه الان سيقوده بشكل او بآخر للرجل الذي تعتقد جدته انه الوحيد الذي اقترب من فهم الأسباب الحقيقية للابادة التي تتعرض لها البشرية .... توريب توريب .. توريب .... كانت اوراقا صغيرة تخرج من الالة بشكل متتابع ... توريب توريب ... تتسارع نبضات قلبه ... توريب توريب .. تتابع الأوراق وبالكاد يتمالك نفسه , تمنى لو كان لديه من يشاركه تلك اللحظة حتى لو كانت جدته لتوبخه على تدخله فيما لا يعنيه ...

توريب توريب .. كانت الترجمة الالية التي اعدها تختصر في لحظات السنوات التي استغرقتها جدته في ترجمتها الاولى , مع ذلك كان فخورا بالاسلوب الفريد الذي ابتكرته لفهم تلك الرسائل فلولاها لضاعت كل جهود العالم البنفسجي ... توريب توريب .. اختلط صوت الالة بصوت غريب احس به يصدر من احد تماثيل التيرانوصور العملاقة , حاول تجاهله لكن التمثال بدأ يهتز ويتسع فمه بشكل اكبر لتطل من داخله رأس طفلة على الاغلب مجنونة لتضحك بتلك الطريقة المزعجة وتفسد سكون الليل , تعجب من معدة التيرانوصور التي تستخدم كمخبأ سري للاطفال وقبل ان يتسائل كيف صعدت الطفلة لداخله كانت قد قفزت مسافة الثلاث امتار من رأس التمثال الى الارض , كيف لم تتأثر او تصب بأذى ؟ كيف تستمر بالركض وهي تضحك ؟ اسئلة ابعدها عن تفكيره سريعًا لينصب تركيزه على جمع الاوراق استعدادا لقرائتها ..

يتلاشى صدى ضحكات الطفلة ليدوي صوت اطلاق نار , رفع بصره ليتفاجئ امامه بامرأة تطلق النار من مسدسها تجاه رجل ملقى على الارض بلا حراك , ثم هي مستمرة بالاطلاق بينما تصرخ بالاسبانية لماذا اقتلك؟ توريب توريب .. توريب .... عم السكون بنفاد مسدسها واكتمال اوراقه ... قرر لو يتجاهلها هي الاخرى خصوصا ان فضوله تلاشى وهو يسمعها هي نفسها عاجزة عن فهم سبب جريمتها , اقتربت منه وهي تسأله لماذا قتلته ؟ على الاغلب لم يسمعها , سقطت على ركبتيها وهي تهمس لنفسها لماذا ؟ ضاقت عينيها واستمرت تهمس لنفسها كيف لا اتذكر ؟ .. عمومًا كان قد بدأ بالقراءة وتلاشى ما حوله بعيدا عن عقله ..
  






.







" الانعطاف لليسار هو خيارك الافضل "
صدر الصوت من عمود انارة محذرا فتاة ببشرة حمراء مرت بجواره لكنها بعناد تجاهلت تحذيره واستمرت في سيرها

" عدد الافراد في نهاية الطريق يقترب من الحد المسموح به برجاء الانعطاف "
كان الصوت هذه المرة يتردد بتتابع من بين جزوع الاشجار بدا عليها الانزعاج ثم قررت الانعطاف يمينا

" انتبه من المتوقع تعرض الشارع للقصف خلال دقائق "
توقفت واغلقت عينيها للحظات ثم تابعت السير في نفس الطريق

تحذير .. توقف .. انعطف .. خطر ... استمرت بتجاهل الاصوات لحتى وصلت لنهاية الطريق ... واخيرا البحر .. نزعت حذاءها وجلست على الرمال المكان الوحيد خارج البيت لتسترخي فيه بعيدا عن الاصوات , في العادة يشعر الناس على الكوكب بالامتنان للاصوات ففي عالم لا تنتهي حروبه تناقص عدد البشر بمعدل كارثي ادى لظهور العديد من الأنظمة الذكية ابرزها النهار الليلي والارشادات الصوتية لتعين البشر في الحفاظ على حياتهم وتمتد لاحقا في كل شارع وزاوية من الكوكب

صحيح ان ازعاج تلك الأنظمة لا يقارن بفوائدها للبشر لولا ان الفتاة الحمراء كانت من القلة التي عبرت ارض الابلاج ( الكلمة من ابلج وهي اقرب مرادف اعتقد معبر عن المعنى الاصلي الذي على الاغلب مقصوده شيء مشابه لما حوله ثم في لحظة بدأ يختلف ويتميز عن غيره ) وهناك سحرها الليل وتلون السماء في لحظات الشروق والغروب , لم تنس قط مشاعرها مع اول غروب لتستمر من بعدها يوميا بزيارة البحر في نهاية كل نهار طبيعي لتحظى بلحظات قليلة لمنظر مشابه لذلك الغروب قبل ان تفسده الشموس الصناعية

تتأمل الأمواج في تتابعها كقلقها الذي لا ينتهي ... تتذكر ابتسامة جدها مدحه لاجتهادها اختياره لها من بين كل احفاده واولاده لتمثل القبيلة , ورغم انعدام موهبتها كان يبتسم بفخر ويثني على كبريائها الذي يدفعها وسيستمر بدفعها لتكون الافضل , كان جدها هو الرجل الذي ارتفع بقبيلته من القاع الى القمة لتتحول لواحدة من اهم القبائل المؤثرة في الاتحاد الشرقي الذي يشكل اكثر من ثلث الكوكب المعروف , وفي عصر زعامته حظيت القبيلة بشرف تمثيل الاتحاد في أغلب المنافسات العالمية التي دارت في أرض الابلاج , ورغم أن أحداً من القبيلة لم يثق يوماً بموهبتها إلا أنهم جميعاً قد إحترموا رغبة الجد ومنحوا الفتاة الحمراء كل ما لديهم ليصنعوا منها نجمة تنافس أعظم مواهب الإتحاد , ومع أنها لم تحظى مطلقا بالتقدير الذي حلمت به رغم الجهد الشاق الذي إستمرت تبذله من طفولتها لكنها وبالدعم المتواصل من قبيلتها حظيت بشهرة لم تتحقق قبلها لمن في مثل عمرها ولحسن الحظ كانت مدركة لضعف موهبتها لتأخذ كل مهامها بجدية وكأن حياتها تعتمد على كل نجاح تحققه ...

في لحظات تلاشى الغروب غير المكتمل ومع إشراقة النهار الليلي شعرت بكآبه زادت من توترها وهي تفكر فيما يحمله لها صباح الغد بعد الدعوة المفاجئة التي تلقتها بشكل رسمي من مكتب الوزير الثاني , أغلقت عينيها وهي تتخيل السماء مظلمة والنجوم ..... لكن صخب محركات السيارات التي جاءت لتعيدها قد أفسدت عليها الصورة ..








.




من مكان ما يدوي هدير أحد المحركات , شخص ما يتخبط بين جدران تحيط به في مساحة ضيقة ومظلمة , يضع يده على أذنه محاولاً تخفيف الصوت الذي كاد يصمه , في ظروف أخرى كان ليفزع لكنه إنشغل في محاولة إكتشاف من هو ومن وضعه في هذا الظلام؟

مرت فترة قبل أن تنزاح إحدى الستائر ليكتشف أنه على متن طائرة .. للدقة هو لايعرف حتى معنى طائرة لكنه وبعد لحظات قليلة كان على يقين أن العنقاء ابتلعته وحلقت به في السماء , إقتربت العن... الطائرة من الأرض رأى في الأسفل تجمعا صغيرا للناس ثم وفي لحظة ... من المؤسف أن الشخص الوحيد القادر على وصف حقيقة ما حدث كان أعجز الناس عن إدراك نفسه فضلا عما يحيطه ... لاحقا سيصف أحدهم الواقعة بأن الأمر بدأ بحادث سير تسبب بتجمع صغير تبعه على الفور سقوط صواريخ إستهدفت التجمع تلاها في ذات اللحظة ظهور طائرة بيضاء بمظهر غريب أقرب لصندوق مجنح حلق على إرتفاع منخفض ثم في لحظة ظهرت فوق ناطحة سحاب مهجورة وفي ذات اللحظة إنفجرت الصواريخ ..

من الأسفل وصف الناس الجحيم الذي عبر من فوقهم دون مسهم بأذى , والذى رأى المشهد من الأعلى بدا له وكأن الصواريخ إصطدمت بسطح خفي حمى الناس من الإنفجار أما الطائرة الغريبة فما أن حطت على سطح الناطحة حتى خرج منها قائدها ليقفز تجاه الأرض ويختفي عن نظره , لتنفجرت الطائرة الغامضة وبشكل عجيب تحولت فيه لغبار وكأنها لم تكن
وما لم يره أحد فكان سقوط شخص ما من الطائرة في اللحظة الأخيرة معتقداً نجاته من بطن العنقاء قبل تحولها لرماد ليجد نفسه في أرض غريبة وبشر أغرب ببشرة حمراء كالشياطين ....








.





في الصباح التالي وعلى غير عادتها استيقظت الفتاة الحمراء قبل النهار الحقيقي بساعة أو أكثر , إلى حد ما كان الكلام الذي سمعته من خالتها ليلة الأمس في طريق عودتها قد زاد من قلقها ومنعها النوم , أخبرتها أن لقاء اليوم يتعلق بإختيار من ستمثل الإتحاد وأن طريقة الإختيار هذه المرة مختلفة وستعتمد بالكامل على حسن أدائها بحسب الشائعات , لم تكن تفتقد للثقة خصوصا مع خبرتها السابقة بتمثيل الاتحاد غير أنها كانت على دراية بأن فرصتها الوحيدة لتجاوز منافسيها تعتمد على النفوذ الكبير الذي تتمتع به قبيلتها لدعم ترشحها , ولو تم الإختيار عن طريق منافسة وبغض النظر عن الأداء المتقن الذي ستقدمه ففرصتها شبه معدومة خصوصاً مع الكراهية الكبيرة التي تحظى بها من جماهير النقاد , كانت أكثر من غيرها تعلم أنها ليست الأولى أو الثانية ولا فرصة لتكون الثالثة , وحتى مع الشعبية الكبيرة التي تتمتع بها بفضل الدعايا المستمرة لنيل لقب الأكثر شعبية كل عام , كانت في ذات الوقت تتمتع بأكبر نسبة كراهية من بين الجميع ساهمت فيها مقالات استمرت لسنوات تصفها بعديمة الموهبة

اقترحت خالتها الانسحاب غير انها رفضت بشدة مع تخيلها للهجوم القاسي من بعض الصحف وعناوين كعديمة الموهبة تهرب من المنافسة , ثم هي في كل الأحوال كانت تفضل المواجهة الخاسرة على الانسحاب دون محاولة , إلا أن ما حدث ذلك اليوم كان أسرع من أن تستوعبه وستظل من بعدها تفكر أكان عليها الاستماع لخالتها والانسحاب ؟ هل كانت حياتها الهادئة لتستمر على بساطتها ؟

بعد الغروب الطبيعي وصلت لمكتب الوزير , كانت هي المغنية الرابعة وصولاً إضافة إلى الوزير وبجواره ملحن عجوز لم تتعرفه وقتها , بكلمات موجزة شرح الوزير سبب دعوته لهن هي رغبة الملحن بتقديم واحدة منهن لشاب يعتقد أن لديه موهبة قد تعيد للإتحاد الشرقي مكانته بعد النتائج المغزية في العشر سنوات الأخيرة امام الاتحاد الغربي , ورغم الراحة التى شعرت بها الفتاة الحمراء أن الإجتماع لم يكن غرضه تحديد ممثلة الإتحاد عاودها القلق والوزير يختم كلامه بأن لقائهم مع الشاب تجربة مثرية لهن بغض النظر عما سيقرره , وخلال دقائق كانوا جميعًا أمام منزل الشاب , ما أدهش الفتاة الحمراء أكثر من ضخامة البيت كانت الحراسة المكثفة المحيطة بمداخله في عصر تناقص فيه عدد البشر للدرجة التي لم يعد بينهم من يوصف بالفقر رغم أن التمييز بين البشر إستمر تبعًا للمكانة الإجتماعية ومعها إستمرت الجرائم لكنها وبسبب الحروب المتتابعة كانت نادرة وفي حدود ضيقة , في الداخل اصطحبهم خادم عجوز طلب منهم الجلوس والإنتظار , لم تفهم الفتاة الحمراء سبب البرودة الشديدة داخل البيت رغم إعتدال الطقس في الخارج , لكن الاضاءة الحمراء المنخفضة اعطتها إحساسا مربكا بالدفئ بعد فترة قصيرة ظهر الشاب بملابس سوداء ووجه ناعس جلس أمامهم وفي عينيه نظرة تساؤل , بدا للفتاة الحمراء كشخص للتو إستيقظ من نومه ليتفاجئ بغرباء في بيته , على كل حال تبدلت نظرته بعد أن همس خادمه في أذنه بشيء ما , وضح الشاب أنه لا يمانع منح خبرته لغيره رغم شكه في نفعها خصوصًا مع عدم انتمائه للوسط وانعدام خبرته


في اللحظات التالية وقبل أن يعلق احد على كلامه كان يطلب من كل واحدة تأدية مقطع تفضله بعدها كان وبسرعة غير عادية يستبدل بعض كلمات المقاطع لتناسب طريقة تلحين مختلفة ويعزفها على ألة تشبه لوحة مفاتيح مع صوت يخرج من أوتار على جانبها المقابل , ولتوضيح فعله بصورة مفهومة لدينا كان ما يفلعه شبيها بتعريض كل مقطع غنائي على مختلف المقامات الموسيقية مع تغيير لحنها , فهموا وقتها انه يختبر نقاط ضعف وقوة كل صوت وكانت سرعته مع الجودة التي يقدمها بلا إعداد مسبق قد أذهلتهم للدرجة التي منعتهم من فهم هدفه الحقيقي الذي لم يدركه وقتها غير الملحن العجوز لخبرته السابقة مع الشاب , وحين بدأت الفتاة الحمراء بتأدية مقطعها مع عزفه كانت الوحيدة التي ارتبكت في منتصف المقطع وتوقفت .. اعتذرت وانتظرت منحها مقطعا آخر كالاخرين لكن الشاب شكرها , منعها كبريائها من طلب فرصة أخرى رغم ضيقها من انها الوحيدة التي منحت مقطعا واحدا بينما كل واحدة أخرى كان لها أربعة مقاطع او اكثر , في النهاية شكر الشاب الجميع ثم اخبر الملحن بأنه لا يمانع لو زارته الفتاة الحمراء مع فريقها لمرة أو اكثر أسبوعيا ....




.





بعد ساعات من الاستكشاف على سطح ناطحة السحاب المهجورة خمن الشاب الغامض الذي يعتقد نجاته من العنقاء انه على سطح قلعة بنيت بشكل رأسي عجيب , تأمل المنطقة وناطحات السحاب المهجورة ليردد بلا تفكير : وقلعة عانق العنقاء سافلها وجاز منطقة الجوزاء عاليها ... للشاعر الذي لا يذكره , شعر بغرابة تذكره للشعر رغم نسيانه لكل ما يتعلق بنفسه .. اتخذ قراره بالمكوث في القلعة مؤقتا لعله يجد فيها ما يعينه على فهم اين هو فحتى لو لا يتذكر نفسه يشعر أن كل ما حوله يبدوا غريبا وغير مألوف لعينه

أمضى الايام التالية يتنقل بين طوابق ما يعتقد أنها قلعة كان ذكيا ليتعلم بسرعة عن وضعه الجديد ويعتاده , من مراكز التسوق المهجورة داخل الناطحة حصل على الماء والطعام , صحيح ان اكتشافه لطريقة فتح المعلبات وتناولها استغرقت وقتا لكنها علمته بعد أن فشل في اعتيادها كيف يفكر بطريقة افضل ليستعمل الحديقة على سطح الناطحة , ومستعينا ببقايا الخضروات الفاسدة استطاع تحويلها لمزرعة خضروات صغيرة وخلال ايام قليلة كان قد استعمل أحد محلات الاساس ليصنع لنفسه بيتا ثم بدأ بوضع الخطط اليومية للاستفادة من وقته كان التنظيف والاعتناء بالحديقة اضافة الى حاجاته الأساسية تستغرق الساعات الأولى من الصباح , بعدها يستريح ثم يبدأ بجمع الكتب من المكتبات وينقلها لبيته ومع انها بالنسبة له كانت مكتوبة برموز غريبة ليقرر جمع أكبر قدر منها لعل المختلف منها يعينه على فهم بعضها البعض حسب رأيه

استمرت بعدها محاولاته لاشهر دون جدوى حتى كاد يصيبه اليأس من فهم رموزها إلى أن جاء اليوم الذي أحضر فيه بعض المرايا الى بيته .. فلسبب ما كان يشعر بنفسه مثيرا للسخرية كلما تأمل نفسه بالملابس العجيبة التي كان يقتنيها من محلات الملابس ليقرر تمضية وقته في البيت بصنع ما يلائمه منها وتجربتها امام المرايا , ثم صادف أن رأى انعكاسا لأحد عناوين الكتب على المرايا ليشعر باحد رموزها مألوفا له ... عاودته ذكرى غامضة كان فيها يغمس قلمه في الحبر ويحاول تقليد الكبار عندما يكتبون فيرسم الأحرف بخطوط منثنية ولو حاول تعديلها تتشابك أطرافها اكثر ... عاد لتأمل الأحرف في المرآة لتبدو كأحرف عربية خرجت من الكتاب لتقف على رأسها ثم تنثني حول نفسها , أمضى أياما يتأملها حتى توصل لطريقة إسقاط للاحرف قريبة للاسقاط في الهندسة الفراغية لينتهي بنقاط بعد توصيلها كانت تشكل أحرفا مشوهة معكوسة يمكن قرأتها ببعض الجهد عند تعريضها للمرآة بعد قلبها

كانت فرحته بالاكتشاف ولهفته للقراءة أكبر من ان تترك له مكانا ليتساءل عن سبب تشوه الكتابة طالما أنها بالأصل عربية ثم هو كان فخورا بنفسه ليستمر يردد : واني اذا باشرت أمرا اريده تدانت اقاصيه وهان اشده ... للشاعر الذي للأسف لا يذكره عموما من هنا بدأ الشاب المجهول رحلة تعلم طويلة ستضع على كاهله يوما ما مصير الكوكب الأحمر ....










.





عادت الفتاة الحمراء لبيتها تلك الليلة فخورة بنفسها , للمرة الأولى في حياتها تختبر إنجازا حققته دون مساعدة من قبيلتها أن يتم إستبعاد منافسيها وإختيارها وحدها كان الإعتراف الأول بموهبتها الذي يمنحه لها شخص من خارج قبيلتها

في الأيام التالية إلتقت بالملحن العجوز ليروي لها عن لقائه الأول بالعازف قبل أسابيع في قاعة طعام أحد الفنادق وكيف لم يتمالك نفسه وهو يستمع لعزفة بدت له أصوات الأوتار تعبر من عالم آخر بعيدة جداً عن وصفها بالعزف المتقن المعتاد استحوذت على كامل إنتباهه سحرته ليتمنى لتلك اللحظات أن تدوم أبدًا , في الخارج تبعه العجوز محاولاً معرفة من هو لكن العازف أكد له أنه مجرد شخص كان يتناول العشاء حين شعر برغبة في العزف فطلب الإذن من عازف القاعة ليمنحه بضع دقائق , كان العجوز مرتبكاً ليسأله أكثر لكنه في اليوم التالي بدأ عملية بحث محمومة إستعمل فيها كل ما يملك من نفوذ ليحصل على صورة للشاب من تسجيلات القاعة , إستعان بعدها بمكتب رئيس الإتحاد لمعرفة كل مايتعلق بالعازف , لكن المعلومات كانت مقتضبة لدرجة أثارت شكه وأشعلت فضوله ليلتقي بعدها بصديقة القديم رئيس الاتحاد , لكن الرئيس بدوره كان متحفظا وإن لم ينكر معرفته بالشاب لكنه اكتفى بالقول أن الشاب في الوقت الحالي يمضي عطلة قصيرة في العاصمة

بعدها خطرت للعجوز فكرة الاستفادة من الشاب لدعم الحالة الفنية المزرية التي يمر بها الاتحاد الشرقي مؤخرا الى أن وافق الرئيس على الفكرة في حدود معينة ليتم ترتيب اللقاء السابق ويقع الاختيار على الفتاة الحمراء , عندها سألته السؤال الذي حيرها عن سبب اختيارها رغم انها تقريبا الوحيدة التي لم تؤدي مقطعا واحدا بشكل كامل للحظة اندهش العجوز لجهلها ثم ازاح قلقه ليخبرها أنها استحقت الاختيار لأنها الوحيدة التي التقطت اذنها الاختلاف الطفيف لعزف الشاب عن النوتة وبالأخص علامات التحويل غير المكتوبة مما اربكها وجعلها تتوقف ... نوعا ما شعرت بالإحباط لتعلق على كلامه

في الأيام التالية زارت العازف برفقة فريقها للمرة الأولى لتمر بنفس ظروف الزيارة الأولى , الحراسة المشددة البرودة الشديدة للمنزل الاضاءة الحمراء الهادئة ثم بعد انتظار لدقائق ظهر أمامهم مجددا بعين منعسة شعرت بغرابة أن يمضي أغلب عطلته في النوم ... أتيحت لها الفرصة هذه المرة لتتأمله كان على الأغلب يكبرها بأربعة او خمسة أعوام شعرت انه اصغر من أن يكون معلمها او بالأهمية التي اوحت بها كلمات الملحن عنه , خمنت انه ربما أحد أقرباء رئيس الاتحاد لا اكثر , كانت نظرته تعطي شعورا غريبا بالراحة ...

توقعت تعرضها لاختبار آخر لكنه وعلى العكس طلب منها مساعدته ليكتشفا إن كان باستطاعته افادتها ثم أقترح عليها منافسة افضل أغانيها والفكرة هي إعادة إنتاج افضلهم خلال جلستهم اليوم لمنافسة الأصلية على أن تكون النتيجة هي ما سيحدد ان كان وجوده مفيدا او لا , وبنهاية الجلسة لم تتخيل أبدا قبلها كيف يمكن لتغييرات بسيطة في الكلمات والأوزان تحسين أدائها لدرجة تتفوق على الأصل الذي تطلب منها اشهرا لإعداده , فمجرد أن بدأ عزفه شعرت بصوتها للمرة الأولى يظهر بإمكانيات لم تتوقع يوما أن لديها الموهبة لتأديتها وبنهاية اليوم لم تكن بحاجة لتعيد تفكيرها في أهمية وجودها معها

انشغلت بعدها في الإعداد لانطلاقتها الجديدة مع حملات دعاية مكثفة وكانت تزوره بين فترة وأخرى طلبا للنصيحة الا انه فاجأها ذات يوم برغبته خلال الشهر الأخير المتبقي من عطلته أن يكون المخرج الرئيسي لعودتها وافقت بحماسة ستتذكرها لاحقا لتسأل نفسها أكانت تلك اللحظة هي التي حددت مصيرها لتكون الشاهدة الأخيرة على النهاية المأساوية لعالمها ....




.




مرت الايام والشاب الغامض غارق في تأملاته يمضي اغلب وقته في محاولاته العسيرة لقراءة الكتب التي جمعها , بدأ وعيه بما حوله يتشكل فلم يعد يخشى الصعود لسطح الناطحة وأصبح يمضي اغلب وقته على سطحها يتأمل المدينة ... شمسها التي لا تغرب ابدا ... كان يتأملها وبداخله شوق غامض لليلة مقمرة يتأمل نجومها

أدرك لسبب ما ان منطقة الناطحات أو القلاع الرأسية كما يسميها مجرد اطلال هجرها أهلها لسبب ما لكنه لم يملك الجرأة على الخروج منها خصوصا ان القلة من البشر الذين استطاع أن يلحظهم من الأعلى كانوا حمر البشرة بدرجة اخافته ليقرر البقاء داخل قلعته والتعلم أكثر عن العالم , ثم حدث أن تغيرت طريقة تفكيره ليبدأ بفهم عالمه الجديد بعيدا عن خواطره الغبية بشأن العنقاء وارض الشياطين , فمع اكتسابه للجرأة التي مكنته من البقاء على السطح وتأمل العنقاوات المحلقات من فوقه عن قرب أدرك من صوتها أنها بعيدا جدا عن كونها كائنات حية خصوصا وهو لم يرها يوما تتصرف كحيوان يبحث عن صيد وانما تنحصر مهمتها في الطيران نحو الشرق ثم قذف النيران على البشر الحمر والعودة بعدها باتجاه الغرب او العكس ليعتبرها آلة حرب ويطلق عليها المقذاف الطائر بالحيلة

لكن السؤال الذي حيره لماذا كان على متن أحدها ؟ ومن أين جاء به ؟ والى أين اوصله ؟ ولماذا لا يتذكر شيئا عن نفسه قبل وصوله الى هنا ؟ ولما كل ما حوله غريب عن عينه فمهما تأمل القلاع من حوله لا تشبه ابدا الشكل الحقيقي للقلعة كما يتخيلها في عقله , حتى الكتب والأقلام والملابس والبيوت والشوارع كلها لا تنطبق على تصوره لها , استمرت حيرته إلى أن وصل باستكشافه لطوابق الناطحة لقاعة ضخمة خمن من المنحوتات العملاقة التي لم يتبينها في الظلام أنها معبد وثني فكاد يفقد اهتمامه باستكشافها لولا أن لمح شيئا ما مألوفا لعينه مرسوما على أحد الجدران ليقرر زيارتها من جديد حاملا معه بعض الشموع , وعلى مدخل القاعة تأمل التماثيل الضخمة على الضوء الشاحب ... ارتجف لمنظرها الذي بدا له كالابل الشيطانية تسير على قدمين مع ايدي قصيرة مخلبية حاول تجاهلها وهو يردد : تحبو الرواسم من بعد الرسيم بها وتسأل الأرض عن أخفافها التفن ... للشاعر الذي لا يذكره لينصرف انتباهه بحثا عن الجدار الذي حضر لرؤيته

خفق قلبه بشده وهو يتأمل الجدار كانت تكسوه رسمة زيتية لأرض نصف مجمدة يظهر في منتصفها مدينة غريبة الشكل كل ما فيها طلي بالأسود , شوارعها محاطة بأوتاد شقت السحب بعلوها , جنوبها مسرح معلق في السماء , وشمالها بحر اسود كئيب تحيط بها جبال جليدية , لم يفهم سبب الخوف الذي تملكه وهو يتأملها جسده يرتجف ويتذكر نفسه لسبب ما كان على تلك الأرض مدينتها المكتسية بالسواد وبالأخص مسرحها المعلق في السماء بمظهره الكئيب والشعور المفزع كأنه من خلاله يرى النهاية

من يومها ومع اشتعال فضوله لم يتوقف عن القراءة للحظة فبدأ بصنع أبجدية وسيطة مكنته من القراءة الفورية للكتب , وخلال عام من الاطلاع كان قد انتهى بصورة واضحة لواقعه منها حاول الغوص عميقا بحثا عن إجابة لسر البشر حمر البشرة وماضيه المجهول والخطر العظيم القادم لمحو البشرية ....




.



في مقر فرقتها امضت الفتاة الحمراء اياما تحاول مع فريقها تقليد ما فعلته مع العازف بإعادة إنتاج واحدة من أغانيها , لكنها ورغم الجهد المبذول لم تشعر بالرضى عن النتائج كانت الكلمات تظهر متكلفة والألحان مشوهة يستحيل تفوقها على الأصل ... فكرت بمدى عبقرية العازف ليتجاوز خلال ساعات مجهود كان يستغرق اشهرا من العمل دون راحة , مع ذلك لم تشعر بالإحباط في الحقيقة كانت سعيدة وهي تكتشف بنفسها مدى الموهبة التي يتمتع بها معلمها الجديد لتشعر براحه افتقدتها منذ قرر جدها اختيارها ليصنعوا منها نجمة تمثل القبيلة ... لازمها دائما شعور بالقلق والخوف من الإخفاق أن تخذل جدها الذي منحها ثقته الا ترتقي لتوقعات جمهورها , لكنها اليوم تشعر بحماسة تشتعل بداخلها واثقة أنها مع العازف يمكنها حتى تجاوز كل مواهب الاتحاد الغربي

كانت تفكر من لحظات الصباح الأولى وهي على شرفة بيتها تتأمل الشروق ... مجرد دقائق قليلة تتلاشى فيها الشموس الصناعية وتتلون السماء بضوء الفجر الشاحب لحظة الاشراق , على جانب الطريق امرأة عجوز تعبره تخيلت لو أصبحت بمثل عمرها كيف سترى نفسها الآن وهي تنظر للماضي , ستندم على حياة اضاعتها في القلق .. ستفتخر بشهرتها .. ستتمنى حياة مختلفة .. ستصل لحكمة تجعلها عديمة الاهتمام بما مضى , عادت لتفكر بالعازف .. السحر المتدفق من ألحانه .. سر إستعماله للأوزان , كيف تستعملها نفسها فتخرج بنتيجة مشوهة ... فكرت بأعقد الغاز البلاغة ان تستعمل نفس الأوزان والمرادفات ثم تنتهي بتراكيب مشوهة عن الأصل , كيف يصل كل تركيب بتميز يعبر عن شخص دون آخر ؟ هل من طريقة لتميز تتلاشى فيه مشاعر البشر تتجاوز قدرتهم عن رؤية ما خلفها ؟ تبتسم لتماديها في المبالغة تشعر بالحماسة وهي تفكر بالأيام التي تنتظرها برفقة العازف

في المساء عرفت أن العازف زار مقرها واجتمع بالفريق , كان أسلوبه الهادئ وشائعة انه أحد أقرباء الرئيس ساهمت بشكل كبير في تقبله كقائد مؤقت للفريق , استمع لاقتراحاتهم بشأن الانطلاقة الجديدة ثم عرض عليهم افكاره المقترحة التي ستبدأ بحملة دعاية لتغيير صورة الفتاة الحمراء لدى النقاد من طفلة قبيلة ثرية لفنانة ملهمة قادرة على اثراء الحالة الفنية , ثم أقترح أماكن التصوير وتوظيف فرق مساعده واخيرا الميزانية المتوقعة التي رفضتها خالة الفتاة الحمراء بصفتها مديرة الفريق اضافة لرفضها حملة إعادة تعريفها لضيق الوقت المقرر لاختيار ممثلة الاتحاد , غير أنها مع أسلوب العازف المقنع واقتراحه تدبير الميزانية من داخل الفريق دفعها للموافقة بشرط انتهاء كل الإعدادات خلال ثلاثة أيام

ومع انتهاء جلستهم معها عاود مجددا جمع الفريق , أغلق غرفة التدريب مع لافتة عدم الإزعاج كتب على لوح الكتابة خطة جمع الميزانية خلال يوم ثم في نهاية اليوم كان قد تم جمعها , صحيح أن الفتاة الحمراء لم تكتشف أبدا سر ما حدث ذلك اليوم مع قرار أفراد فرفتها بإبقاء الأمر سرا عنها , كان ما اخبروها به أنهم فقط منحوها هدية لم تتطلب اكثر من يوم واحد عملوا فيه بجد مع مخرج الفرقة المؤقت , لم يبقى بعدها للفتاة الحمراء غير بعض الإشارات تحاول من خلالها تصور ما حدث عندما اكتشفت بعد أيام الشعبية التي اكتسبها كاتب النصوص والعازفة لفرقتها لدى أغلب فناني الاتحاد ...

مجرد يوم تغيبته ليتغير عالمها بساعات أمضاها العازف مع فريقها بدأت بعده حملة دعاية تحاول إظهارها كامرأة مستقلة في قراراتها وحياتها وفنها عن قبيلتها , حرصوا أن يبتعد مظهرها عن اي شبه طفولي في ملابسها او تصفيفة شعرها .. تظهر بتسجيلات قصيرة تؤدي فيها بعض المقاطع القصيرة في صورة لانهماكها الدائم في التأليف والتلحين , غير أن أغلب وقتها كانت تمضيه بحسب اقتراحات مخرجها الجديد في رحلات للتأمل .. بشكل قاطع كان يعارض طريقتها في بذل كل جهدها للتدريب يرى الاسترخاء والتأمل سيلهمها كما لم يفعل اي جهد اعتادته , كانت تحاول بصبر البقاء في بيتها وتمضية الوقت بالقراءة او الخروج في رحلات دون الشعور بأهمية ما تفعل إلى سألها ذات يوم أن كانت تشتاق لترى ليلة حقيقية على أرض البشر ؟




.




بمرور الأشهر نمت معارف الشاب الغامض ومعها تطورت قدرته على الملاحظة والتحليل , تعمق في دراسة الانعكاسات بخطوط إسقاط احرف الكتابة ليصل لفكرة مجنونة مكنته من فهم الطبيعة الحقيقية للبشر حمر البشرة .. فكما أن الانعكاسات كشفت له حقيقة الكتابة توقع أن انكسارات مشابهة للضوء قد تكشف له حقيقة اخرى فبدأ باستعمال عدسات مختلفة لكسر الضوء ينظر من خلالها للبشر حتى توصل لطريقة صنع عدسات مكنته من رؤية حمر البشرة بألوانهم الطبيعية كما يرى نفسه في المرآة

عندها انتبه لحقيقة انه ومن دون أدنى شك غريب عن العالم بغرابة تتجاوز مجرد الجهل بمعارفهم لينصرف اهتمامه على دراسة التاريخ وتحليله بصورة مهدت له فهم حالته بطرق أكثر واقعية فانتبه أن تصوراته المختلفة للأشياء عما هي عليه سببها معرفة عظيمة اكتسبها البشر بمرور الزمن تغيرت معها الصناعات والبنايات , لم يكن يخشى جهله بمعارفهم بقدر ما افزعه حاضرهم والمصير الذي ينتظرهم

ففي فترة ما كانت الأرض ممتلئة بالبشر ولسبب ما كانت موحدة الحكم , عجز عن فهم الأسباب الحقيقية التي بدأت منها الحالة المزرية التي يمرون بها .. كانت سجلات الاتحاد الشرقي تتحدث عن هيمنة ظالمة خاضوا حروبا شرسة للتحرر منها ألهمت حتى الاتحاد الغربي الذي بدأ بالمثل صحوة تمرد , غير أن الشاب الغامض شعر أن البداية الحقيقية حدثت قبل مائة عام من حركات التمرد عندما بدأ البشر بالفرار من القارة نصف المتجمدة .. كانت الحقيقة الوحيدة هي ظهور اول قيادة منشقة وفرار عشرات الملايين منها لاسباب مجهولة كان تفسيرها لدى أغلب المؤرخين شتاء قارس استمر لسنوات ادى لمجاعات دفعت الناس للفرار , مؤرخ منعدم المصداقية تحدث عن مشروع سري للحكومة بدأته على القارة المتجمدة وكانت نتائجه الأولية خطيرة وتبشر بعصر جديد للبشرية والنتيجة أن انشق الفيلق المتواجد في القارة ليقرر قادته السيطرة عليها والاستقلال عن المركز , ثم بعنصرية لا مبرر لها بدأوا حملة إبادة لإخلاء القارة من أغلب سكانها

اما الحكايات الشعبية فمعظمها عن وحوش عملاقة وشياطين كانت تقتحم المدن والقرى وتبيد اهلها , وبغض النظر عن الحقيقة استقلت القارة ولسبب ما لم تفكر حكومة المركز باستعادتها واغلب الظن أن فقر القارة ومناخها قارس البرودة جعل قادة المركز يعتقدون ان عودتها مسألة وقت ولا حاجة ليتكلفوا معركة يمكن ربحها بمرور الزمن بلا ثمن , لكن الغريب أن قادة الفيلق المنشق ما أن استقرت لهم الأوضاع حتى قطعوا كل ما يربطهم ببقية العالم , أوقفوا التجارة .. منعوا الدخول الى القارة او الخروج منها .. سخروا اسطولهم البحري لمنع اي محاولة تسلل او تجسس , وفي عصر كانت الطائرات في بداياتها الأولى انعزلت القارة عن العالم لسنوات طويلة حتى أصبحت شبه منسية

مرت بعدها فترة سكون قصيرة انتهت بعصر حركات التحرر بدأت في الأراضي الشرقية للمركز ثم انتقلت للاراضي الغربية لتشتعل سلسلة من الحروب انهكت جيوش الحكومة المركزية تبعها مجموعة كبيرة من الانشقاقات تسببت بانهيار المركز واقتطاع أغلب أراضيه لصالح ما أصبح معروفا باتحاد الشرق او الغرب , ورغم انهيار المركز تمكنت البقية الباقية من قادته من الاحتفاظ بسلسلة جبلية تمتد على الحدود الفاصلة بين اتحاد الشرق والغرب , ومع الوقت إستقرت الأوضاع مع عجز الإتحاد الشرقي أو الغربي عن التوغل في الأراضي الجبلية للمركز , أما البقية من شعب المركز فقد عاشوا حياة صعبة مع طبيعة قاسية وإنعدام للموارد إلا أنهم تمسكوا بأحلام رومانسية عن إستعادة مجدهم التليد واعادة توحيد العالم كانت تظهر كل بضع سنوات مع حروب جريئة تنطلق في كل إتجاه تبدأ بانتصارات سريعة إلا أنها مع الفارق الكبير بين قوتها وأعدائها كانت سرعان ما تنهزم وتتراجع إلى الجبال

ثم حدث أن طفت على السطح ذكريات القارة نصف المتجمدة بعد اختفاء سرب من طائرات الاستطلاع كان الاتحاد الغربي قد ارسله لاستكشاف القارة , تطورت الأحداث بعدها ليتشكل حلف مؤقت بين الشرق والغرب لغزو القارة نصف المتجمدة التي أصبحت مصدر تهديد بتطورها العسكري غير المتوقع والمجهول في أغلب جوانبه , لكن النتيجة كانت ابادة الاساطيل البحرية للتحالف ثم بدأت سلسلة غارات عنيفة بطائرات تفوقت بشكل ساحق على كل الأسلحة الجوية لكلا الاتحادين لتنتهي الغارات بعد أسابيع بإبادة نصف سكان الأرض وتدمير أغلب مدن التحالف , وبنهاية الحرب برزت القارة نصف المتجمدة للعالم تحت اسم ارض الابلاج على انها ارض محرمة على البشر وان من فيها الآن هم الأُخَّرون (والكلمة نوعا ما تعني آخر الأجناس أو الجنس الذي سيبقى بعد فناء ماعداه)

ثم ان الأُخَّرون تركوا حدود الابلاج تحت حكم مجموعة من البشر ليمثلوهم في تعاملهم مع بقية البشر وهؤلاء بدورهم كانوا مع قوتهم وتطورهم ينظرون للبشر غيرهم بشيء من الازدراء , وكانت منطقتهم الحدودية هي فقط داخل ارض الابلاج المسموح فيها باستقبال البشر في حدود معينة بعد أن أصبحت المنطقة الوحيدة الآمنة للبشر مع بدأ حرب الإبادة التي أعلنها الشرق والغرب ضد بعضهم البعض لتتحول قراها ومدنها لمناطق محايدة بين الشرق والغرب تجرى فيها كل البطولات والمسابقات العالمية ثم هي بطبيعة الحال خط الدفاع الأول عن أرض الابلاج وخلال المائة عام الأخيرة ومع التفوق الذي اظهره الأُخَّرون بمحو نصف البشرية خضع البشر بشكل تام لهيمنتهم باستثناء محاولة وحيدة من المركز أعلنوا فيها الحرب على الأُخَّرون ثأرا للبشر , وكعادة حروبهم الخاطفة بدأت بانتصار سريع وانتهت بهزيمة متوقعه , اما من تعمقوا بدراسة تفاصيلها فقد ادهشهم كيف لقوات المركز ضعيفة التسليح أن تصل القارة وتسيطر على أطرافها ولو مؤقتا في حين أن أحدث اساطيل الشرق والغرب وقتها قد تم محوها بمجرد اقترابها من القارة

ثم من وقتها والى اليوم بقي الحال كما هو قصف وغارات لا تتوقف بين الشرق والغرب مع اتفاق ضمني على يوم وحيد في الأسبوع تمنع فيه اي أعمال عسكرية بين الطرفين مع حروب برية مستمرة بين المركز والشرق والمركز والغرب في دائرة عبثية لا تنتهي من الكر والفر

والخلاصة أن الشاب الغامص توصل الى ان نجاة البشر على هذه الارص تتوقف على معرفتهم لحقيقة القارة نصف المتجمدة , مدى اتساعها وحجم مواردها وحقيقة الأُخَّرون وسبب انعزالهم وبأي طريقة قرروا افناء البشرية , وان كانت الاجابة على السؤال الاخير يسيرة فقد توصل الى ان تعداد البشرية الان سيعجز عن مقاومة اي غزو بغرض ابادتهم وكان على يقين بنهاية البشر ان خسروا فرصتهم باستباق الأُخَّرون والتحرك , لينتهي بقرار ترك الأطلال والانطلاق في رحلة الى المركز المكان الوحيد حيث البشر يتجاوز كرههم للقارة نصف المتجمدة كرههم لغيرهم من البشر .. حيث خرجت المحاولة الوحيدة للثأر من الأُخَّرون , ومن ناحية اخرى شعر براحة كبيرة ليتواجد في مكان يرى فيه ليلة مقمرة ....





.




جلست الفتاة الحمراء في مخيمها المطل على المنطقة الحدودية للمركز تتأمل ظلمة السماء وإشراقة قمرها من خلف رؤوس الجبال التي تغطي الأفق , كانت قد إعتادت على زيارة المنطقة بنهاية كل اسبوع منذ رحل العازف , ورغم الأشهر التي مرت لم تستطع مسامحته على إختفائه المفاجئ .. في ذات الوقت كانت ممتنة لكل ما قدمه لها .. بفضله كانت إنطلاقتها كاسحة ولأول مرة شعرت بالغرور وأنها الأفضل , حتى أعدائها من الصحافة والنقاد اعترفوا بالمستوى الرفيع الذي قدمته لتحقق بعدها أعظم إنجازات حياتها ... مثلت الإتحاد الشرقي ونافست الإتحاد الغربي على أرض الإبلاج واختيرت ضمن أعظم مواهب البشر لتؤدي عرضها على المسرح المعلق في السماء أمام الأُخَّرون في الأراضي المحرمة على البشر , وتتحول لاسطورة حية داخل الاتحاد

فكرت كيف للقاء دام لاشهر قصيرة ان يحقق لها مجدا لم يتحقق قط للاتحاد منذ نشأته ... تسترجع ذكريات الاشهر الاخيرة برفقته وكيف اعتنى بكل التفاصيل وقام بكل الجهد لدرجة تجعلها تفكر احيانا باحباط لو انها كانت بالنسبة له مجرد دمية .. دمية متقنة الأداء اثبت بها عبقريته , لكن من هو ؟ وكيف لموهوب مثله ان يكون مجهولا ؟ للدقة كان رغم عدم شهرته معروفا لدى كل الشخصيات المهمة في الإتحاد , وعندما التقت بالرئيس بعد عودتها من ارض الابلاج كان السؤال الوحيد الذي سألته اين العازف ؟ ومن هو ؟ وقتها طلب منها الرئيس ان تنسى امره لانها على الاغلب لن تلتقيه مجددا

وبالفعل تلاشت كل اثاره حتى بيته حين زارته كان قد تحول لقلعة مهجورة لا خدم او حراسات , ولم يبقى ما يذكرها به غير زيارتها الاسبوعية للمنطقة الحدودية مع المركز المكان الوحيد حيث بإمكانها رؤية الليل كما تعلمت منه , صحيح انه حذرها من القدوم مجددا لكن كان مستحيلا بالنسبة لها قمع رغبتها في تأمل السماء الممتلئة بالنجوم ... مشاعرها في تلك اللحظات كانت لا تقارن بحياتها لو كان لها ان تختار بينهما

في تلك الاثناء كانت الاوضاع في المركز تمر بتغير جنوني اذ انشقت محموعة ضخمة من الجيش واستقلت باكبر مدنها في الشمال الشرقي , ثم بدأت بفرض حصار على القرى الحدودية في الشرق بغرض السيطرة على كامل الحدود الشرقية للمركز , اما اسباب انشقاقهم فكانت اعتراضا على الحالة المزرية للمركز المستمرة لعقود طويلة بسبب ما يرونها اوهام عبثية عن اعادة توحيد العالم وان على المركز تقبل الواقع ومسايرته بالاستسلام للأُخَّرون والقبول بخطتهم لتقسيم اراضي المركز بين الشرق والغرب

ومع سيطرتهم على اغلب الحدود الشرقية تم ذات يوم رصد مخيم الفتاة الحمراء بالقرب منهم , حددوا هويتها فكانت فرصة لبيعها او اهداءها الى الأُخَّرون , وبيع اصحاب المواهب للأُخَّرون كانت واحدة من انشط التجارات المحرمة لكنها كذلك كانت تتم بسهولة اذا تم تهريب الهدف الى داخل حدود الابلاج بعيدا عن اعين حراس الحدود , وبالفعل تم حصار مخيمها ثم أخذت وحدها اسيرة لتسجن في احدى القرى الحدودية ريثما يتم الاعداد لنقلها

حُبسَت في غرفة عادية داخل مبنى قديم يستعمله المنشقون كسجن مؤقت , امضت الايام الأولى في رعب وقلق حتى بدأت تعتاد وضعها لتقرر إنهاء حياتها مع اول فرصة متاحة ... في الليلة الرابعة حدثت جلبة في الغرفة المجاورة لها , فهمت من الأصوات انه اسير جديد كان يردد بكلمات غريبة انه جاء بنفسه ليرى الملك , لم تفهم قصده بالملك ولم تكن في وضع يسمح لها بالتفكير على اي حال وفي ذات الليلة سمعت اصوات خدش في قفل الباب المتصل بغرفتها , استمرت اصوات احتكاك المعدن تتردد طيلة الليل الى ان استجاب المقبض لتتفاجئ بشاب غريب المظهر يعبر لغرفتها وهو يردد لنفسه بفخر : أطاعن خيلا من فوارسها الدهر وحيدا وما اا ... ارتبك حين تفاجئ بوجوده في غرفة أخرى , وفتاة من حمر البشرة تنظر له بقلق

حيته على مثابرته في طعن الباب طوال الليل ثم نصحته بتوجيه طعناته للباب الذي ادخلوه منه , انتبهت انه ينظر لها بخوف حتى وضع يده في جيبه وارتدى نظارة غريبة لتتغير نظرته ويسألها ان كانت حبيسه مثله ثم بلهفه سألها لو كانت هي ايضا جاءت للقاء الملك ثم استمر يثرثر عن سرعة بديهته في اكتشاف الحيلة في مسارات الاوتاد داخل القفل , كانت قد قرأت شيئا في السابق عن لقاء كل بطل سيء الحظ برفيق زنزانة غريب الاطوار فتمنت لو كانت في وضع يسمح لها بشتمه خصوصا مع تعبيراته القديمة لكن ملامحه الصادقة جعلتها تتردد

كان يرتدي ملابس غريبة لكنها لسبب ما كانت تلائمه خمنت انها تكبره بثلاث أعوام على الاقل ... اخبرته ان زعيم المركز الذي يعتبره ملكا محاصر في الغرب بعد تمرد نصف جيشه , علق بيأس خلعوا طاعته ثم قال شيئا عن ضياع الفرصة الاخيرة للبشر وبعد ساعات وهي تحاول استيعاب قصته الغريبة وانه من دون نظارة يراها ببشرة حمراء كالشياطين , وساعات اخرى تحاول تُفهمه المعنى من كونها فنانة وشخصية مهمة دون جدوى الى ان غلبه النعاس اثناء جلوسه على الارضية

كانت تكره الناس التي تنام في اي مكان دون اكتراث لكنها تعاطفت للارهاق البادي على وجهه فكرت ان كان فعلا قطع المسافة من اقسى شرق الاتحاد لحدود المركز دون الاستعانة بالسيارة التي يسميها الزاحفة المنطلقة بالحيلة , كانت نظارته قد سقطت بجانبه ... التقطتها لتتفحصها كانت بشعة وواضح انها من صنعه وضعتها على عينيها فبدا كل شيء كما هو لكن لحظة نظرت الى الشاب تراجعت بخوف وهي تتأمله من خلف النظارات ببشرة زرقاء مخيفة , نزعتها واعادتها لجواره وهي حائرة لو كانت مجرد خدعة او ان الشاب بالفعل يحمل سرا غامضا , وقبل أن تفكر بالنوم شعرت بصوت خطوات تقترب من غرفتها لحظات وانفتح الباب ليظهر العازف من خلفه تأملها في هدوء شعرت بنظراته تعاتبها ومع عشرات الاسئلة التي تزاحمت في رأسها عجزت عن الكلام بصمت تبعته ثم ترددت للحظة عادت للشاب الغامض هزته ليستيقظ وطلبت منه مرافقتهم فتبعها دون تعليق .. سألها العازف عنه فقالت شيئا عن الشاب القادم لعالمهم بالحيلة

انتقلوا بعدها برفقة العازف لمنزل مؤقت ريثما يتم الاعداد لخروجهم من المركز , لم تفهم السبب ليتجنب الكلام معها طوال الطريق حتى لم يسألها ان كانت بخير , وفي المنزل امضى اغلب الوقت يتفحص بعض الخرائط ويجري اتصالات , كان لديها الكثير ليشغل تفكيرها لكنها نامت من الارهاق ... بعد ساعات استيقظت وخرجت من الغرفة كان العازف برفقة بعض الاشخاص يتناقشون حول امر ما والشاب الغامض منطوي على نفسه في احد الأركان يحدق بالنافذة جواره , توقعت تعرضه لبعض السخرية لطريقته الغريبة في الكلام , لم يتبدل الاحباط البادي على وجهه منذ سماعه بالفوضى التي تعم المركز ... فكرت لو كانت حقيقته بالفعل كما ذكرها فبإمكانها تخيل مدى الفراغ الذي يشعر به بعد ان فقد الهدف الوحيد الذي اوجده لحياته الغريبة رغم انها لم تستوعب ابدا فكرته عن لقاء زعيم المركز لحثه على دفع البشرية لاخذ زمام المبادرة في الحرب التي يتوقع قرب حدوثها مع الأُخَّرون , جلست أمامه لتسمعه يهمس لنفسه : ذراني والفلاة بلا دليل ووجهي والهجير بلا لثام ... فكرت لو تسايره فقالت : لا تلق دهرك إلا غير مكترثٍ ... للمرة الاولى رأته يبتسم .. مؤكد لم يلتقي قبلها بمن يشاركه اعجابه بالشاعر الذي للاسف لا يتذكره ....





.




استمرت الفتاة الحمراء تنتظر بصبر فرصة يمكنها فيها الكلام مع العازف الا ان الاحداث كانت اسرع من ان تمنحها فرصة , وبشكل مفاجئ قرر العازف ان نقلها للشرق الان فيه مخاطرة واقترح ترحيلها للغرب ومن هناك تنتظر يوم السلام الاسبوعي لتستقل طائرة للاتحاد الشرقي , وخلال دقائق كانت هي والشاب الغامض داخل احدى العربات العسكرية برفقة احد الجنود عبرت بهم لحدود الغرب ومن هناك حملتهم مروحية الى قرية جبلية على حدود المركز وهبطت بهم على مدرج طائرة ملحق باحد البيوت الضخمة , هناك استقبلتهم امرأة عرفت نفسها بواحدة من اصدقاء العازف اعطتهم غرفا وطلبت منهم ان يستريحوا

في المساء اخبرتهم ان العازف سمح لها بالاجابة على اي سؤال يرغبون بطرحه , بفضول سألها الشاب الغامض عن سر الحيلة التي تسمح للمكعبات البيضاء بدفع الهواء البارد من خارجها رغم حرارة الصيف؟ نظرت له الفتاة الحمراء بغضب ليسكت ثم تظاهرت بالهدوء وهي تسأل المرأة عن العازف من هو ؟ وكيف استطاع اخراجها من المركز ؟ وكيف وصلت لاراضي الغرب بهذه السهولة ؟ في الواقع طلبت اخبارها بكل ما تعرفه عن العازف فوضحت انها بالفعل لا تعرف الكثير عن ماضيه , سمعت انه بهوية مزيفة درس الطب في الاتحاد الغربي ثم ترك دراسته في منتصفها وعاد الى المركز لينضم لواحدة من فرق المهمات الخاصة , لا تعرف الكثير عن تلك الفترة لكنها الفترة حيث بدأت افكاره تتشكل ليبدأ بتكوين تحالفات داخل الغرب والشرق , كانت قدرته على كسب ثقة كل الاطراف مثيرة للدهشة وبسببه نجحت لاول مرة اتفاقيات سرية لتبادل الأسرى بين الشرق والغرب بعيدا عن هيمنة الأُخَّرون , واحدة من تلك الاتفاقيات كانت سببا في عودة الاخ الاصغر لرئيس الاتحاد الى الشرق بعد سنوات من الاسر نشأت بسببها علاقة قوية بين العازف والرئيس الذي وفر له هوية مزيفة تسمح له بزيارة الشرق وقتما شاء

فيما بعد انكشفت علاقاته مع الشرق والغرب لقادة المركز ولما كان الابن الوحيد للاخ الاصغر لزعيم المركز فقد اكتفوا بتجريده من رتبته ونفيه , الا ان الشاب بدأ تلك الفترة العمل على فكرته بتكوين منظمة تسعى لفرض السلام على البشر شكلها من علاقاته المتعددة في الشرق والغرب والمركز وهدفها الاخير صنع انقلابات على الحكومات الثلاثة وايجاد اخرى اكثر تقبلا لسلام دائم يعم كل اراضي البشر , ثم في الاخير قالت المرأة انها بدورها عضوة في تلك المنظمة والبيت الذي يستضيفهم هو احد قواعدهم المنتشرة حول العالم

سألتها الفتاة الحمراء عن الانشقاق الحاصل في المركز هل سببه .... قاطعتها اجابة الشاب الغامض بأنه انقلاب من الأُخَّرون لأن إنهيار المركز سيضع نهاية للحد الفاصل بين الشرق والغرب الذي طالما عمل على منع الحرب من أن تُحسم لطرف دون آخر ينتهي بإبادة الطرف المهزوم

تم بعد ذلك الاعداد لرحيلها خلال يومين وانشغلت في اليوم التالي بتبادل الرسائل مع أفراد قبيلتها وفي ليلة رحيلها طلب منها الشاب الغامض ان تخبره بكل ما رأته ومرت به في ارض الابلاج ... حكت له عن مرتها الاولى قبل سنوات , وقتها كانت صغيرة جدا لتلمع .. عديمة الموهبة جدا لتنافس .. قليلة الخبرة جدا لتجد لنفسها مكانا بين من اختيروا كأفضل مواهب البشر لتؤدي عروضها على المسرح المعلق في عاصمة الأُخَّرون , مع ذلك فقد امضت اياما لا تنسى على حدود الابلاج رأت فيها ظلمة الليل ولمعان نجومه للمرة الاولى في حياتها , اما زيارتها الثانية فكانت ضمن من وقع عليهم الاختيار لتؤدي على المسرح المعلق ... حكت له عن المجموعة المرافقة من حكومة البشر على حدود الابلاج .. عن رعبهم من ان يظهر في سلوك اي بشري ما يثير غضب الأُخَّرون .. عن الطائرة العجيبة التي عبرت بهم مدن الابلاج .. عن الضباب الكثيف الذي يغطي مدنها من الاعلى .. عن الكثرة الرهيبة للأوتاد السوداء المحيطة بشوارعها .. عن امتدادها لعنان السماء لتظهر رؤسها من بين السحب .. عن اصوات الرياح الغاضبة التي بدت كصراخات الشياطين .. عن البحر الأسود الظاهر من خلف القارة .. عن الممرات الزجاجية التي ساروا من خلالها لحجب كل وسيلة تواصل او اختلاط مع شعب الأُخَّرون .. عن نظراتهم المحتقرة للبشر .. عن غضبها من تعمدهم اهانتها وقت صعدت للمسرح .. عن رد فعلها وعدم اكتراثها بجماهيرهم .. عن تقديمها لعرض مختصر اثار استفزازهم .. عن التحذير الذي تلقته من المجموعة المرافقة ان ما فعلته لن يُغفر لها منهم خصوصا نظراتها المتعالية لحظة انسحابها من المسرح

امضى بعض الوقت يفكر بوصفها لعاصمة الابلاج .. مبانيها السوداء .. الأوتاد التي شقت طريقها للسماء .. بحرها الاسود وبالأخص مسرحها المعلق في السماء , الى ان تشتت تفكيره وهي تسأله ان كان يرغب بالرحيل معها الى الشرق , ليخبرها عن قراره بالبقاء حيث هو ريثما يعثر على طريقه تمكنه من الوصول الى المدينة السوداء .. الارض الوحيدة التي يشعر انها مألوفة لعينه .....






.



في صباح اليوم التالي اختفت الفتاة الحمراء ومن ثم لم تُرى قط على ارض البشر
سُجلت الحادثة كظاهرة غامضة تلاشت فيها احدى الطائرات اثناء تحليقها لتتحول في لحظة الى غبار دون اثر لحطام او بقايا اجساد ....










.




لسبب ما لم يستطع الشاب الغامض تجاهل التشابه بين حيلة ظهوره المفاجئ في هذا العالم والحيلة في اختفاء الفتاة الحمراء منه ليصل في بحثه الى ما اطلق عليه موصلات العدم , وهي مناطق فراغ متصلة ببعضها ولسبب لم يفهمه كانت تحمل قوة عجيبة قادرة على تحويل كل ماعدا البشر لغبار , في حين تطوي الارض للبشر لتتبدى القوة الكامنة في الفلك العلوي حسب وصفه الذي لا يدري كيف تذكره في تلك اللحظة التي شعر فيها بجسده يتلاشى .....










,




في لحظة لو كان قد قدر لمؤرخ ان يحيا بعدها لكان وصفها باللحظة التي وصل فيها الجنون البشري لمنتهاه .. لحظة قرر فيها العازف حشد كل قواته التي اعدتها منظمته في الخفاء لسنوات والسيطرة على كل المدن الساحلية المطلة على المحيط الفاصل بين البشر والأُخَّرون في الشرق والغرب والمركز

لتبدأ بعدها واحدة من اعظم حروب البشر واكثرها جرأة استعملوا فيها عشرات الالاف من القوارب البدائية وعلى متن كل قارب ثلاثة جنود ’ وعلى اختلاف محطة وصول كل قارب كان على افراده التصرف تبعا لموقفهم من الانتظار او القتال بغرض تشتيت العدو او الاندماج بمجموعة اخرى ودعمها او شق طريق لتعبر من خلفهم مجموعة تشق الطريق بدورها لمجموعة اخرى لحتى تمكنوا من اختراق دفاعات العدو عبر مسارات تحاول بدورها الاتصال بمسارات اخرى خلف خطوط عدوهم اخترقتها مجموعات مختلفة الى ان تم حصار خصومهم

ومع استراتيجيته البدائية واعتماده على التضحية بحياة جنوده كانت اسلحة الأُخَّرون المتفوقة عاجزة عن التعامل بفاعلية مع تناثر افراد جيشه على مساحات شاسعة , ثم وبثمنٍ باهظ ضحى فيه بثلثي جيشه استطاع العازف السيطرة على حدود القارة نصف المتجمدة والاطاحة بحكومة البشر التي طالما عادت غيرها من البشر خدمة للأُخَّرون .....




.





بصعوبة كان يتحرك بين اكوام من الرماد , لا يدري لو كانت قد مرت سنوات او ساعات .. رائحة الاحتراق لازالت تصيبه بالغثيان وصوت ضربات الأمواج على الكهف تكاد تصمه , يتحسس الجدران في محاولاته اليائسة لفهم ما نُقش عليها , ورغم الارهاق الذي كاد يفقده وعيه كان يقاوم وبداخله شعور انه لم يوجد في هذا العالم منذ ابتلعته العنقاء الا لهذه اللحظة بالذات , كان ممتنا لمن ادركوا ان لو حدثت الكارثة فكل طرق تدوينها لن تصمد امام الخراب الذي سيعم الارض , ثم ولسوء الحظ كان الشخص الوحيد القادر على قراءتها مجرد شاب غريب عن عالمه عاجز عن تصور معانيها

فلو كان بيده تحديد البداية فربما كانت بظهور عالم غريب يرتدي قناعا اسود لتشوه اصاب وجهه , زاع صيته بنظرية تاريخية عن كارثة مجهولة ادت لتصدع الارض وانقسامها لقارات .. ثم ولسبب ما تسبب انقسام الارض بضعف غريب اصاب المخلوقات الحية ظهر في اجيالهم التالية التي خرجت للعالم على شكل اقزام لو قورنت بأسلافها , ادعى ان دراساته التاريخية مكنته من اكتشاف بقايا العمالقة على الجانب المظلم من القارة نصف المتجمدة , ثم وبجهود ذاتية بذلها برفقة من اقتنعوا بافكاره عن القوة الغير متناهية التي بالامكان استخلاصها من بقاياهم , ومع النتائج الاولية اهتمت حكومة المركز بالمشروع وقدمت له كل ما احتاجه من دعم , ثم ومع النتائج الغامضة التي حققها المشروع حدث الانقسام واستقلت القارة عن المركز

استمرت بعدها التجارب متجاوزة كل الحدود نتح عنها وحوش عملاقة كانت سرعان ما تففد حياتها بعد ساعات لسبب مجهول فسره عالم القناع الاسود بالانهيار المفاجئ الذي يصيب الخلايا المعدلة نتيجة توقفها عن الاندماج , كان مصرا على الوصول لاندماج لامتناهي للخلايا التي يتم توليدها من بقايا احماض العمالقة مدعيا وصوله نظريا لشفرة تمكنه من تعديل وراثي لصفة ما تستمر بتجاوز اقسى امكانيتها الى ما لا نهاية , وربما لو كان لدى احدهم المخيلة وقتها لاستيعاب المعنى الحقيقي من كلامه لما وصل العالم الى نهايته , ولو ان الاجيال الجديدة من البشر على القارة التي اطلقت على نفسها الأُخَّرون كانت بنفس عقلية غيرهم من البشر لكانت النهاية اسرع ....





.





ذكر احد المقربين من العازف ان حركة التمرد التي بدأت في المركز كانت الفرصة التي انتظرتها منظمتهم لسنوات لصنع مبرر يسمح لهم بالسيطرة على المركز كمنقذيه من حالة الحرب الاهلية , الا ان العازف ولسبب لم يستطع تقبله بدأ بالسيطرة على كامل الحدود البحرية مع الابلاج ليعادي كل القوى على الكوكب مورطا جيشه في حرب مكشوفة من خلفهم البشر ومن امامهم الأُخَّرون , ثم تمادى اكثر بشن حرب انتحارية لكامل جيشه بعد تفتيته لاقسام صغيرة

صحيح انه بمعجزة ما حقق انتصارا عجز البشر طوال قرن واكثر حتى عن تخيل حدوثه الا ان دوافعه لحوض الحرب كانت السبب ليقرر معاقبته مهما كانت النتائج بعد ان اكتشف ان العازف بدأ حربه المجنونة لانقاذ من يعتبرها تلميذته بعد اعتقاده ان اختفاءها الغامض سببه الشائعة التي تتحدث عن عمليات اختطاف بين فترة واخرى يقوم بها الأُخَّرون باحضار شخصية من شهيرة البشر ليقتلوها بطريقة مسلية على مسرحهم المعلق , ثم انتهى بقرار اغتيال العازف لافساده جهد سنوات طويلة كان غرضه توحيد البشر اولا قبل غزو القارة الا ان الليلة التي اختارها كانت ولسوء حظه هي ما لو وصفها مؤرخ لاعتبرها الليلة الاخيرة للبشر

وذلك ان العازف الذي بدا وكأنه يتحرك بجنون كان قد خطط للسيطرة على كامل القارة وليس فقط حدودها بخطة اكثر فعالية واقل تكلفة , ففي تلك الليلة تم نصب كل المدافع العملاقة التي اغتنموها من معركتهم الاخيرة على خط واحد بصورة متدرجة مع التصويب بزاوية حددوها بدقة على احد الاوتاد ليتم اسقاطه على الوتد المقابل له والذي سيسقط بدوره على الوتد بعده محدثا تأثير الدومينو لتنهار كل الاوتاد العملاقة المحيطة بكل مدن القارة , كان توقعهم لدمار وفوضى ستمكنهم من اقتحام مدنهم والسيطرة عليها ومع نجاح النصف الاول من خطتهم وانهيار الاوتاد عم الظلام القارة بظلال عجيبة امتدت للسماء مع اصوات مدوية كزئير الوحوش تسببت بنزيف في اذان كل من سمعها , ظلال ممتدة بلا نهاية تصدعت الارص من تحتها , ظل اكثر قتامة شق ساحل القارة ساحقا كل ما مر بطريقه , ثم استمرت الظلال بشق طريقها الى المحيط الذي ارتفعت امواجه لما خلف الغيوم لتهبط مصطدمة بالقارة وينهار نصفها غارقا في المحيط ....





.




فتحت الفتاة الحمراء عينيها بتثاقل .. كانت مستلقية على فراش ابيض في غرفة شديدة الاضاءة ... لسبب لم تفهمه كانت الغرفة تهتز , بصعوبة جلست لتكتشف أنها على ارضية حجرية والغرفة من حولها تتلاشى , ارتجفت من الرعب وهي تتلفت حولها كانت على المسرح المعلق , لم تفهم كيف ومتى اصبحت هنا .. كان يهتز منذرا بانهياره القريب , من الاعلى رأت الاوتاد المحيطة بالقارة تتساقط .. الاصوات .. الظلال .. القارة تتفتت وعلى مرمى الافق كانت أرض البشر بدورها تمر بلحظاتها الاخيرة .. تتصدع وتتناثر غارقة في قلب الامواج التي شقت السماء

كانت اذنها تنزف .. لحظات فقدت فيها حاسة السمع , انهارت على طرف المسرح .. بصعوبة فتحت عينيها , كان المشهد المفزع لنهاية العالم اقسى من ان تتحمله , خارت قواها وهي تشعر بلحظاتها الاخيرة ... ابتسمت لخوفها وهي التي امضت اغلب اوقات قلقها تتمنى الموت , انهار المسرح وشعرت به يحلق وفي لحظة مرت كالدهر لمحت قاربا يتحرك بالقرب من احد الكهوف البحرية شاقا طريقه ناحية البحر الاسود وللغرابة كان لديها يقين انه الشاب الغامض .. كان يبتعد غارقا في الظلام

فتحت عينيها مجددا لتجد نفسها على الفراش الابيض والغرفة شديدة الاضاءة , بصعوبة حاولت الجلوس .. لم تعرف اكانت تهذي او هي تهذي الان , تتذكر عودتها من المركز .. انهيارها .. كانت تسمع اصواتا تتحدث عن تعرضها لسم مجهول , وفي لحظات سمعت العازف يطلب منها ان تصمد ليومين يعدها فيها باحضار المضاد .. لتشعر به بعدها يحقنها قبل ان تفقد وعيها مجددا

بتثاقل نهضت .. كان الهدوء يعم المكان وعلى الاريكة كان العازف بحسب البادي على وجهه منهارا من التعب , شعرت به مر بسباق مع الزمن لانقاذها .. فخورة للاهتمام الذي تحظى به من شخص مثله ... اهتزت الغرفة ولسبب ما شعرت برعب يزلزلها .. كانت الغرفة تتلاشى والظلام يحاصرها ... هزة اخرى عادت معه الغرفة لما كانت عليه , حاولت تمالك نفسها .. بهدوء فتحت النافذة .. القت نظرة على ساحة المشفى ... منتصف الليل والسكون يعم المكان , لسبب ما كانت مستمتعة والهواء البارد يضرب وجهها .. رفعت بصرها للسماء لتشعر براحة وهي تتأمل نجومها اللامعة في الظلام ... لحظات تمنت لو يتوقف الزمن فيها لتبقى ابدا ..









تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تمضي وأمضي مع العابرين

  وإذ أيقنت بقرب يومها فلكم خافته قدر ما نزعت اليه نفسها ... تترقب وقع الاقدام ... دوي الطرقات على الباب .. صوت من يناديها .. همس الجدران بصدى اسمها .. أي يد هزتها ... أي عين أبصرتها .. أي عهد اجتباها إليه ...... اقتربت القطة الصغيرة من النافذة .. ترقبها بيأس من أسفل وقد انهكها الجوع , دارت حول نفسها وفي لحظة تساقطت بقايا الطعام من الأعلى .. ارتاع قلبها من هذا الذي ارتطم بالارض قبل ان تتمالك نفسها فأخذت تتشمم الارضية , أحاطت بقطعة دجاج فانطلقت نحوها قطة اكبر صرخت بوجهها لتتراجع الصغيرة في رعب ....... اغلقت أثير النافذة بعد اذ يئست من اطعام الصغيرة وقد فرضت الكبيرة هيمنتها على كل ما قد ترميه من بقايا , عادت لفراشها ولم يكن من بد إذ ليس في الغرفة غير السرير .. تأملت سقف الغرفة كان يشع بياضا ثم هو بلا نقوش ولم تكن واثقة من مصدر الضوء , جلست .. نظرت للجدران ولم تكن مغايرةً للسقف .. جدران بيضاء لامعة ملساء بلا تفاصيل , دفنت وجهها في الوسادة .. تقلبت في الفراش واستقر بصرها على الباب , مجرد نقش على الجدار بلا مقبض لكنها لم تشك انه الباب لسيما وهو الجدار ذاته الذي تبرز منه عتبة الطعام وهي مجرد

عندما انتهى العالم ...​

  في ليلة كئيبة التقى رجل غير عادي بعجوز عادية ... قيل  قد همس لها بثلاث كلمات وقيل بل خمسة ... للحظات مر ببيتها على اطراف قريتها النائية قبل ان يتلاشى كأن لم يكن .. قيل ان ما همس به قد غير العالم وقيل بل دمره ... لا افهم ..  قالتها بيأس وهي تستعد لتدوين تقريرها الاخير عن الحالة , كانت مختصة في الاضطرابات النفسية للاطفال ومع خبرتها الطويلة تمر بأولى لحظات عجزها كطبيبة فحين عرضوا عليها مسألة الطفلة ريم ظنتها في البداية مجرد حالة عادية لرهاب الاطفال لكن الطفلة وكما بدا لها وبمخيلة جامحة تصنع لنفسها الخوف .. تبتكره بإبداع عجيب ليتناسب مع كل لحظات يومها , لم يكن خوفها كبقية الاطفال من الظلام او الحشرات او الحيوانات الاليفة كان ببساطة من كل الاشياء حولها جمادات او مخلوقات كلها كانت بنظرها قابلة للتحول الى الشيء الذي تسميه دب كبير ليأكلها حتى ابوها كان المتحول الافتراضي الاشد ارعابا لها فبنظرها كانت قدرته على التحول الى الدب اسرع حتى من دولاب غرفتها الذي كانت تخشاه بجنون الى ان ابعدوه عن حجرتها ..... امسكت الطبيبة بقلم وبكلمات بسيطة ختمت تقريرها :  والخلاصة ان ريم تعتبر كل ماعدا امها دب متخف